فصل: تفسير الآيات (11- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (10):

{قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)}
قوله تعالى: {قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} استفهام معناه الإنكار، أي لا شك في الله، أي في توحيده، قال قتادة.
وقيل: في طاعته. ويحتمل وجها ثالثا: أفي قدرة الله شك؟! لأنهم متفقون عليها ومختلفون فيما عداها، يدل عليه قوله: {فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} خالقها ومخترعها ومنشئها وموجدها بعد العدم، لينبه على قدرته فلا تجوز العبادة إلا له. {يَدْعُوكُمْ} أي إلى طاعته بالرسل والكتب. {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} قال أبو عبيد: {مِنْ} زائدة.
وقال سيبويه: هي للتبعيض، ويجوز أن يذكر البعض والمراد منه الجميع.
وقيل: {مِنْ} للبدل وليست بزائدة ولا مبعضة، أي لتكون المغفرة بدلا من الذنوب. {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} يعني الموت، فلا يعذبكم في الدنيا. {قالُوا إِنْ أَنْتُمْ} أي ما أنتم. {إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا} في الهيئة والصورة، تأكلون مما نأكل، وتشربون مما نشرب، ولستم ملائكة. {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا} من الأصنام والأوثان {فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} أي بحجة ظاهرة، وكان محالا منهم، فإن الرسل ما دعوا إلا ومعهم المعجزات.

.تفسير الآيات (11- 12):

{قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)}
قوله تعالى: {قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي في الصورة والهيئة كما قلتم. {وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} أي يتفضل عليه بالنبوة. وقيل، بالتوفيق والحكمة والمعرفة والهداية.
وقال سهل بن عبد الله: بتلاوة القرآن وفهم ما فيه. قلت: وهذا قول حسن، وقد خرج الطبري من حديث ابن عمر قال قلت لأبي ذر: يا عم أوصني، قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما سألتني فقال: «ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا ولله فيه صدقة يمن بها على من يشاء من عباده وما من الله تعالى على عباده بمثل أن يلهمهم ذكره». {وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ} أي بحجة وآية. {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بمشيئته، وليس ذلك في قدرتنا، أي لا نستطيع أن نأتي بحجة كما تطلبون إلا بأمره وقدرته، فلفظه لفظ الخبر، ومعناه النفي، لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} تقدم معناه.
قوله تعالى: {وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} {ما} استفهام في موضع رفع بالابتداء، و{لَنا} الخبر، وما بعدها في موضع الحال، التقدير: أي شيء لنا في ترك التوكل على الله. {وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا} أي الطريق الذي يوصل إلى رحمته، وينجي من سخطه ونقمته. {وَلَنَصْبِرَنَّ} لام قسم، مجازه: والله لنصبرن {عَلى ما آذَيْتُمُونا} به، أي من الإهانة والضرب، والتكذيب والقتل، ثقة بالله أنه يكفينا ويثيبنا. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.

.تفسير الآيات (13- 14):

{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14)}
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا} اللام لام قسم، أي والله لنخرجنكم. {أَوْ لَتَعُودُنَّ} أي حتى تعودوا أو إلا أن تعودوا، قاله الطبري وغيره. قال ابن العربي: وهو غير مفتقر إلى هذا التقدير، فإن {أَوْ} على بابها من التخيير، خير الكفار الرسل بين أن يعودوا في ملتهم أو يخرجوهم من أرضهم، وهذه سيرة الله تعالى في رسله وعباده، ألا ترى إلى قوله: {وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا. سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا} [الإسراء: 76- 77] وقد تقدم هذا المعنى في الأعراف وغيرها. {فِي مِلَّتِنا} أي إلى ديننا، {فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ}. قوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ} أي مقامه بين يدي يوم القيامة، فأضيف المصدر إلى الفاعل. والمقام مصدر كالقيام، يقال: قام قياما ومقاما، وأضاف ذلك إليه لاختصاصه به. والمقام بفتح الميم مكان الإمامة، وبالضم فعل الإقامة، و{ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي} أي قيامي عليه، ومراقبتي له، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ} [الرعد 33].
وقال الأخفش: {ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي} أي عذابي، {وَخافَ وَعِيدِ} أي القرآن وزواجره.
وقيل: إنه العذاب. والوعيد الاسم من الوعد.

.تفسير الآيات (15- 17):

{وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)}
قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا} أي واستنصروا، أي أذن للرسل في الاستفتاح على قومهم، والدعاء بهلاكهم، قاله ابن عباس وغيره، وقد مضى في البقرة. ومنه الحديث: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر.
وقال ابن زيد: استفتحت الأمم بالدعاء كما قالت قريش: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] الآية. وروي عن ابن عباس. وقيل قال الرسول: «إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً» وقالت الأمم: إن كان هؤلاء صادقين فعذبنا، عن ابن عباس أيضا، نظيره {ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت: 29] {ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77]. {وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} الجبار المتكبر الذي لا يري لأحد عليه حقا، هكذا هو عند أهل اللغة، ذكره النحاس. والعنيد المعاند للحق والمجانب له، عن ابن عباس وغيره، يقال: عند عن قومه أي تباعد عنهم.
وقيل: هو من العند، وهو الناحية وعاند فلان أي أخذ في ناحية معرضا، قال الشاعر:
إذا نزلت فاجعلوني وسطا ** إني كبير لا أطيق العنّدا

وقال الهروي قوله تعالى: {جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي جائر عن القصد، وهو العنود والعنيد والعاند، وفي حديث ابن عباس وسيل عن المستحاضة فقال: إنه عرق عاند. قال أبو عبيد: هو الذي عند وبغى كالإنسان يعاند، فهذا العرق في كثرة ما يخرج منه بمنزلته.
وقال شمر: العاند الذي لا يرقأ.
وقال عمر يذكر سيرته: أضم العنود، قال الليث: العنود من الإبل الذي لا يخالطها إنما هو في ناحية أبدا، أراد من هم بالخلاف أو بمفارقة الجماعة عطفت به إليها.
وقال مقاتل: العنيد المتكبر.
وقال ابن كيسان: هو الشامخ بأنفه.
وقيل: العنود والعنيد الذي يتكبر على الرسل ويذهب عن طريق الحق فلا يسلكها، تقول العرب: شر الإبل العنود الذي يخرج عن الطريق.
وقيل: العنيد العاصي.
وقال قتادة: العنيد الذي أبي أن يقول لا إله إلا الله. قلت: والجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد، وإن كان اللفظ مختلفا، وكل متباعد عن الحق جبار وعنيد أي متكبر.
وقيل: إن المراد به في الآية أبو جهل، ذكره المهدوي. وحكى الماوردي في كتاب أدب الدنيا والدين أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله عز وجل: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} فمزق المصحف وأنشأ يقول:
أتوعد كل جبار عنيد ** فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر ** فقل يا رب مزقني الوليد

فلم يلبث إلا أياما حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، ثم على سور بلده. قوله تعالى: {مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ} أي من وراء ذلك الكافر جهنم، أي من بعد هلاكه. ووراء بمعنى بعد، قال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وليس وراء الله للمرء

مذهب أي بعد الله جل جلاله، وكذلك قول تعالى: {وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ} أي من بعده، وقوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ} [البقرة: 91] أي بما سواه، قاله الفراء.
وقال أبو عبيد: بما بعده: وقيل: {من ورائه} أي من أمامه، ومنه قول الشاعر:
ومن ورائك يوم أنت بالغه ** لا حاضر معجز عنه ولا بادي

وقال آخر:
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي ** وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقال لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ** لزوم العصا تحني عليها الأصابع

يريد أمامي.
وفي التنزيل: {كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] أي أمامهم، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وأبو علي قطرب وغيرهما.
وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك، أي سوف يأتيك، وأنا من وراء فإن أي في طلبه وسأصل إليه.
وقال النحاس في قول: {مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ} أي من أمامه، وليس من الأضداد ولكنه من تواري، أي استتر.
وقال الأزهري: إن وراء تكون بمعنى خلف وأمام فهو من الأضداد، وقاله أبو عبيدة أيضا، واشتقاقهما مما توارى واستتر، فجهنم توارى ولا تظهر، فصارت من وراء لأنها لا ترى، حكاه ابن الأنباري وهو حسن. قوله تعالى: {وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ} أي من ماء مثل الصديد، كما يقال للرجل الشجاع أسد، أي مثل الأسد، وهو تمثيل وتشبيه.
وقيل: هو ما يسيل من أجسام أهل النار من القيح والدم.
وقال محمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس: هو غسالة أهل النار، وذلك ماء يسيل من فروج الزناة والزواني.
وقيل: هو من ماء كرهته تصد عنه، فيكون الصديد مأخوذا من الصد.
وذكر ابن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بسر عن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قال: «يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره يقول الله: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} [محمد: 15] ويقول الله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ}
[الكهف: 29]»
خرجه الترمذي، وقال: حديث غريب، وعبيد الله بن بسر الذي روى عنه صفوان بن عمرو حديث أبي أمامة لعله أن يكون أخا عبد الله بن بسر. {يَتَجَرَّعُهُ} أي يتحساه جرعا لا مرة واحدة لمرارته وحرارته. {وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ} أي يبتلعه، يقال: جرع الماء واجترعه وتجرعه بمعنى. وساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغا إذا كان سلسا سهلا، وأساغه الله إساغة. و{يَكادُ} صلة، أي يسيغه بعد إبطاء، قال الله تعالى: {وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] أي فعلوا بعد إبطاء، ولهذا قال: {يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 20] فهذا يدل على الإساغة.
وقال ابن عباس: يجيزه ولا يمر به. {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ} قال ابن عباس: أي يأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته ومن قدامه وخلفه، كقوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16].
وقال إبراهيم التيمي: يأتيه من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره، للآلام التي في كل مكان من جسد.
وقال الضحاك: إنه ليأتيه الموت من كل ناحية ومكان حتى من إبهام رجليه.
وقال الأخفش: يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سماها موتا، وهي من أعظم الموت.
وقيل: إنه لا يبقى عضو من أعضائه إلا وكل به نوع من العذاب، لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها في فرد لحظة، إما حية تنهشه، أو عقرب تلسبه، أو نار تسفعه، أو قيد برجليه، أو غل في عنقه، أو سلسلة يقرن بها، أو تابوت يكون فيه، أو زقوم أو حميم، أو غير ذلك من العذاب، وقال محمد بن كعب: إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه مات موتات، فإذا دنا منه مات موتات، فإذا شرب منه مات موتات، فذلك قوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ}. قال الضحاك: لا يموت فيستريح.
وقال ابن جريج: تعلق روحه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة، ونظيره قوله: {لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} [طه: 74].
وقيل: يخلق الله في جسده آلاما كل واحد منها كالم الموت.
وقيل: {وَما هُوَ بِمَيِّتٍ} لتطاول شدائد الموت به، وامتداد سكراته عليه، ليكون ذلك زيادة في عذابه. قلت: ويظهر من هذا أنه يموت، وليس كذلك، لقول تعالى: {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها} [فاطر: 36] وبذلك وردت السنة، فأحوال الكفار أحوال من استولى عليه سكرات الموت دائما، والله أعلم. {وَمِنْ وَرائِهِ} أي من أمامه. {عَذابٌ غَلِيظٌ} أي شديد متواصل الآلام من غير فتور، ومنه قوله: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] أي شدة وقوه.
وقال فضيل بن عياض في قول الله تعالى: {وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ} قال: حبس الأنفاس.